منافع يوم التروية
منافع يوم التروية
لا شك أن مناسك الحج كلها عبادة لله تعالى , وتعظيم لشعائره , فالحجاج مدة مقامهم بمكة مأمورون بذكر الله وشكره , وحسن عبادته , فهم بعد أن يقدموا مكة قد يتحللون من إحرامهم إن كانوا متمتعين , وينشغلون بعد التحلل بأنواع من العبادة : كالطواف تطوعا , والصلاة في المسجد الحرام , وكثرة الذكر , والتكبير المطلق في الأيام المعلومات , وهي أيام عشر ذي الحجة , امتثالا لقوله تعالى : وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ .
ولا شك أن ذلك مما يزيدهم إيمانا وتقوى , ويحبب إليهم الطاعة وأنواع العبادة , ويكره إليهم المعاصي والمخالفات , فإذا كان يوم التروية وهو اليوم الثامن من ذي الحجة , أحرموا بالحج , بعد أن تمتعوا بتناول المباحات بين العمرة والحج , وأعطوا أنفسهم بعض شهواتها التي تستعين بها على الطاعة , وتعرف بها تمام نعمة الله تعالى , فبعد أن جددوا الإحرام في هذا اليوم , تقربوا إلى ربهم مرة أخرى بترك هذه المباحات , وفطموا أنفسهم عن هذه المشتهيات , وجددوا التلبية , رفعوا أصواتهم بالإهلال , متذكرين ما شُرع لأجله هذا الإحرام , متفكرين في حالهم وما يعملونه فيما بعد .
ثم في ذلك اليوم يتوجهون إلى منى وهي أحد المشاعر التي تؤدى فيها بعض مناسك الحج , ويقيمون فيها ذلك اليوم والليلة التي تليه , وهي ليلة عرفة , وفي هذا المكان يشتغلون بالذكر والتكبير والتلبية , والدعاء والابتهال , وهو أول أيام سفرهم إن كانوا من أهل مكة , ولذلك يصلون في هذا المكان الصلوات الخمس في مواقيتها , ويقصرون الرباعية , ويبدءون بالتلبية بعد كل صلاة .
ولا شك أن عملهم هذا من أفضل القربات , ففيه أنهم نزلوا فيه كالمسافرين , وعلموا أنه ليس مستقرا لهم ; بل سوف يرحلون عنه بعد قليل , متذكرين به الرحيل من الدنيا , وفيه اعتبار جميع الحجاج مسافرين , متذكرين بذلك سفر الآخرة , حيث إن الدنيا كلها دار ضعن وارتحال , وإن الناس فيها سائرون إلى آجالهم , ثم إن هذا المبيت بمنى في مساء يوم التروية سنة مؤكدة , يحافظ عليها الحجاج لإكمال مناسكهم , مقتدين في ذلك بنبيهم صلى الله عليه وسلم , في مبيته ورحيله ومنازله , فيحرصون على اتباعه , والتقيد بما جاء عنه .
وهكذا يبقون في منى إلى صبح يوم عرفة , فبعد الصباح وطلوع الشمس يدخلون مرة أخرى إلى عرفة , ثم يواصلون أعمالهم إلى آخر مناسكهم .
ولا شك أن الأكثر الذين يفرطون في يوم التروية , ويتجاوزون منى , متوجهين إلى عرفة , مخلين بهذا العمل المؤكد , تاركين لهذه السنة النبوية , قد فاتهم خير كثير , وإن لم يُخلّ بمسمى الحج , والغالب أن الذين يتركون المرور بمنى يوم التروية , والمبيت بها وليلة عرفة , هم من الجهلة الغرباء , وأن الذين زينوا لهم ذلك هم المطوفون , الذين يتساهلون في هذا العمل , ويعتبرونه شاقا عليهم , فيتتبعون الرخص موهمين هؤلاء الجهلة أن الصواب معهم , وكان على وزارة الحج الأخذ على أيديهم , وإلزامهم بتكميل المناسك , والمستحبات , والله المستعان .
|